.
- 3 -
التوبة وعلاقتها بالغفران
1 - ما هي التوبة؟
ليست التوبة ندماً على فعل الخطية فحسب، بل هي أيضاً الانصراف الكلي عنها، إكراماً لله ومحبة فيه. أما الامتناع عن الخطية لمجرد الخوف من نتائجها، أو الامتناع عنها مع بقاء التفكير فيها واشتهائها، فلا يُعتبر في نظر اللّه توبة على الإطلاق، بل يُعتبر في الحالة الأولى خدمة للصحة والذات، وفي الحالة الثانية خداعاً للنفس وتضليلاً لها. ولذلك قال الوحي عن الخطاة إنهم يجب أن يتوبوا عن خطاياهم، ويرجعوا إلى اللّه، عاملين أعمالاً تليق بالتوبة (أعمال 26: 20) . كما قال لهم: توبوا وارجعوا عن كل معاصيكم. واعملوا لأنفسكم قلباً جديداً وروحاً جديدة (حزقيال 18: 30 و31) .
2 - توبتنا في ضوء الحقيقة:
بما أننا مهما تُبنا عن الخطية إكراماً للّه ومحبة فيه، قد نخطئ أحياناً بالقول والفكر، إن لم يكن بالفعل أيضاً. وبما أن الخطأ أياً كان نوعه، يحرم النفس من التوافق مع اللّه في صفاته الأخلاقية السامية. إذاً فليست هناك في الواقع توبة كاملة لأحد منا أمام اللّه.
3 - أثر التوبة من جهة الغفران والقبول أمام اللّه:
لنفرض أن إنساناً اختلس مبلغاً من المال من الهيئة التي يعمل فيها. وكانت الضرورة تقضي بسداد هذا المبلغ إليها، وإلا فُصل من عمله وقُدم للمحاكمة. ولكن بدل أن يسعى للسداد أخذ يبكي على جريمته ويعلن توبته عنها، فهل يستطيع بتصرفه هذا أن يمحو ما لحق به من وزر، أو يصبح أهلاً للبقاء في عمله؟ طبعاً كلا! وإذا كان الأمر كذلك، ألا يكون بكاؤه وتوبته بدون جدوى، إلا إذا أشفق عليه إنسان كريم، وقام بسداد المبلغ المختَلَس للهيئة المذكورة نيابة عنه؟!
وبما أننا بارتكاب الخطية نتعدى على حق اللّه ونفسد أنفسناً أيضاً، وبما أن التوبة مهما صدقت لا تعيد إلى حق اللّه قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعتَد عليه (لأن أثر هذه التوبة محدود، وحق اللّه غير محدود، والشيء المحدود لا يفي مطالب أمر ليس له حدود) ، أو تعيد إلى نفوسنا حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية (لأن التوبة مهما بلغت أسمى درجات الإخلاص والأمانة، لا تجعلنا كاملين في كل ناحية من النواحي) ، لذلك لا نستطيع بالتوبة أن ننال غفراناً من اللّه أو قدرة على التوافق معه والتمتع بحضرته، إلا إذا وُفِّيت أولاً مطالب عدالته وقداسته من نحونا بوسيلة إلهية خاصة، كما ذكرنا.
الاعتراضات التي تُوجَّه ضد هذه الحقائق والرد عليها:
1 - كيف لا تكون التوبة الحقيقية وبدء صفحة جديدة في الحياة، وسيلة للصفح عما مضى من الخطايا؟
الرد: إذا تاب إنسان توبة حقيقية عن الخطية في كل مظهر من مظاهرها (وإن كان هذا من المتعذر على الإِنسان القيام به من تلقاء ذاته، كما ذكرنا) ، فإنه لا يكون قد فعل أكثر مما يجب عليه، ولا يكون قد أتى جميلاً يمكن أن يكون تعويضاً عن خطاياه الماضية. حقاً قد ينسى الإنسان هذه الخطايا، وقد ينساها الناس أيضاً، لكن اللّه لا ينساها، فالماضي والحاضر والمستقبل حاضر أمامه. ويقول الحكيم اللّه يطلب ما قد مضى (جامعة 3: 15) . فالتوبة مهما كان شأنها ليست كافية للصفح عما مضى من خطايا. ولإِيضاح هذه الحقيقة إلى حدٍّ ما، لنفرض أن الموظف المختلِس تاب عن جريمته بعد ارتكابها. ولكن بعد مدة من الزمن فحص مفتش دفاتره واكتشف ما فيها من اختلاس، فهل يعتبر هذا الموظف أميناً في عمله ولا يجوز معاقبته؟ الجواب: طبعاً كلا. وإذا اعتذر الموظف بأن الاختلاس حدث من مدة طويلة، وأنه كان أميناً بعد ذلك، فهل يقبل المفتش اعتذاره ويقرر براءته؟ طبعاً كلا. وهكذا الحال من جهتنا أمام اللّه بالنسبة إلى الخطايا السالفة، على فرض أننا عشنا بعدها دون أن نعمل خطية على الاطلاق.
2 - ألم يصفح اللّه عن أهل نينوى عندما صاموا وتابوا (يونان 3: 5-10) ؟ فكيف لا تكون التوبة هي الوسيلة للغفران والقبول أمام اللّه؟
الرد: لم يكن الغرض من الصفح عن أهل نينوى تقريبهم إلى اللّه أو إعطاءهم طبيعة روحية يتوافقون بها معه إلى الأبد، بل كان الغرض الأول والأخير من هذا الصفح (كما يتضح من سفر يونان) ، هو فقط رفع الكارثة التي كان اللّه مزمعاً أن يصبّها عليهم بسبب فداحة آثامهم. وقد ذكرنا فيما سلف أن اللّه يسمع للخطاة عندما يطلبون منه بكل قلوبهم أن ينجيهم من ضيقة ما.
3 - هل يستوي عند اللّه من يتوب ابتغاء مرضاته، ومن يتوب لأغراض شخصية، أو لا يتوب على الإِطلاق؟
الرد: طبعاً لا يستويان، فمن المؤكد أن اللّه يعطف على الأول ويفتح أمامه المجال للغفران والقبول لديه، إذا تم إيفاء مطالب عدالته وقداسته من جهة هذا الإِنسان بوسيلة إلهية خاصة كما ذكرنا، لأن اللّه بقدر ما هو رحيم رؤوف هو عادل قدوس.
- 4 -
الصدَّقة وعلاقتها بالغفران
1 - حدود الصدقة والأعمال الصالحة في المسيحية:
يجب على المسيحي أن يقدم للأعمال الخيرية عُشر ما يكسبه على الأقل (تثنية 12: 17 ومتى 5: 20) . وقال الوحي: كونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع (1تيموثاوس 6: 18) . ويجب أن يكون عمل الخير والصلاح موجَّهاً إلى جميع الناس (1تسالونيكي 5: 15) حتى إلى الأعداء منهم طاعةً للأمر: إن جاع عدوك فأطعِمه وإن عطش فاسْقِه (رومية 12: 20) ، والأمر: أحِبوا أعداءكم. بارِكوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم (متى 5: 44) .
2 - الصدقة في نظر اللّه:
ليست الصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة في المفهوم المسيحي أعمالاً اختيارية يجوز للمرء إتيانها أو الامتناع عنها تبعاً لإِرادته، حتى يكون له فضل عند اللّه إذا ضحّى بشيء في سبيل القيام بها، بل هي واجب يتحتم عليه القيام به، وإلا اعتُبر مذنباً (كما قلنا في الباب الأول) . فإذا ارتكب إنسان خطية ثم قدم بعد ذلك صدقة أو عمل عملاً صالحاً، لا يكون قد عمل جميلاً يمكن اعتباره تعويضاً عن الخطية التي ارتكبها، حتى يستحق الصفح والغفران. لذلك أمرنا المسيح: متى فعلتم كل ما أُمرتم به (من الخير والصلاح) فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا (فحسب) (لوقا 17: 10) . ولو كانت الصدقة والأعمال الصالحة تغفر الخطايا، لكان الذين يتمتعون بالغفران هم فقط الأغنياء ومن لهم القدرة على القيام بهذه الأعمال، وهذا غير معقول.
3 - صاحب الفضل في المال الذي بين أيدينا، وفي الأعمال الصالحة التي نقوم بها:
المال الذي في أيدينا والصحة التي نتمتع بها ليست مِلكاً لنا بل هما من فضل اللّه علينا. لأنه لو كان قد سمح (مثلاً) بولادتنا من عائلات فقيرة جاهلة، أو أصابتنا أمراض مستعصية عُضالة، لكنَّا الآن فقراء معدمين أو مقعَدين عاجزين عن القيام بعمل من الأعمال مثل كثيرين من بني جنسنا. فعندما نعطي الفقراء شيئاً من مالنا، أو نستخدم صحتنا في القيام بأي عمل صالح، لا نكون قد ضحَّينا بشيء من عندنا، ولا نكون قد أسدينا للّه جميلاً نستحق عنه ثواباً.
وقد أدرك داود النبي هو ورجاله هذه الحقيقة الثمينة، فبعد أن قدموا ما يعادل ملياراً من الجنيهات الذهبية، لأجل بناء الهيكل، قال داود للّه لكن مَنْ أنا ومن هو شعبي، حتى نستطيع أن ننتدب؟ (أي أن نقوم من أنفسنا بعمل) لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك. أيها الرب إلهنا، كل هذه الثروة التي هيأناها لنبني بيتاً لاسم قدسك، إنما هي من يدك ولك الكل (1أخبار 29: 14 و16) ، كما قال بطرس الرسول من بعده إن كان يخدم أحد، فكأنه من قوة يمنحها اللّه (1بطرس 4: 11) .
4 - العيوب الكامنة في الصدقة والأعمال الصالحة:
كثيراً ما تكون الصدقة والأعمال الصالحة التي يقوم بها الخطاة ملوثة بجراثيم البُخل والتقتير، أو الفخر والتباهي، أو الرغبة في جزاء من اللّه أو الناس، بسبب صدورها من الطبيعة البشرية الفاسدة السائدة عليهم. وهذا يوضح أن هذه الصدقة والأعمال الصالحة مملوءة بنقائص متعددة، الأمر الذي يجردها من كل صلاح حقيقي يمكن أن يبقى فيها. وقد أدرك إشعياء النبي هذه الحقيقة، فصرخ: صرنا كلنا كنجس، وكثوب عِدّة كل أعمال برنا (وليس أعمال شرنا فحسب) (إشعياء 64: 6) . ءثوب العِدّة هو الثوب الملطخ بالطمث، وهو نجس بحسب الشريعة اليهوديةى.
وإن كانت هذه الحقيقة تسمو فوق إدراك الكثيرين، لكن من سمت نفوسهم وارتقت استطاعوا أن يدركوها كما أدركها هذا النبي. فمثلاً قال كيركجارد رائد الوجودية الروحية: إن أفضل أعمالنا مثل أشرّها، يحتاج إلى غفران اللّه . ولإيضاح هذه الحقيقة إلى حد ما نقول: إذا تطلعنا إلى خضروات مغسولة، قد لا نرى فيها قذارة ما. لكن إذا وضعناها تحت عدسة الميكرسكوب نرى فيها آلاف الجراثيم. وهكذا الحال من جهة الأعمال الصالحة التي نقوم بها، فإننا وإن كنا نراها طيبة، غير أن اللّه يرى فيها الكثير من النقائص والعيوب. ولا غرابة في ذلك، ففي ضوء كماله المطلق تبدو السماء نفسها غير طاهرة، ويبدو الملائكة أنفسهم حمقى (أيوب 4: 18) !!
مذكرة توضيحية عن سورين كيركجارد:
وُلد هذا الفيلسوف في الدانمارك سنة 1813 ويُعتبَر من أشهر علماء النفس في العصر الحديث، وأكثرهم تفكيراً في الأمور الروحية. ولم يبتدع رأياً فلسفياً معيناً، بل عُني بالوجود الفعلي أكثر من النظري. ومن أهم آرائه (1) أن اللّه لا يشرق بمعرفته على الإنسان، إلا إذا وقف الإنسان أمامه مجرداً من كل تصنُّع وادّعاء بالصلاح، معترفاً بفساد طبيعته والمصير المرعب الذي ينتظره. (2) إن الحق الروحي ليس هو الحق النظري، بل هو الحق العملي المؤيَّد بالاختبار الشخصي، والذي يدفع المرء ثمنه بنفسه. لذلك يجب على طالب الحق أن لا يكتفي بالتطلع إليه من النافذة أو الشرفة، بل أن ينزل إلى الطريق ويسير في ركابه، حتى تمتزج نفسه به. وهذه الآراء تُعتبر تفسيراً صحيحاً لأقوال الكتاب المقدس عن الحياة الروحية.
5 - أثر الصدقة والأعمال الصالحة من جهة الغفران والتمتع باللّه:
لنفرض أن خادماً تعدَّى على ملك عظيم نبيل وأهانه إهانة شنيعة، وبعد ذلك قدَّم إليه هذا الخادم هدية ثمينة، فهل تستطيع هذه الهدية وحدها أن تمحو عن الملك العظيم النبيل ما لحقه من إهانة، أو تجعله يُسرّ بالخادم المذكور ويقربّه إلى حضرته؟ طبعاً كلا وكلا. وعلى هذا النسق نقول: نظراً لأن الصدقة والأعمال الصالحة التي يقوم بها بعض الخطاة (حتى إن كانت خالية من كل العيوب) ، لا تستطيع أن تعيد إلى حق اللّه قدسيته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يُعتَدَ عليه، لأن هذه الأعمال محدودة في قدرها، وحقّ اللّه لا حدّ لقدره، والأشياء المحدودة في قدرها لا تفي مطالب أمر لا حد لقدره، أو تؤهل الخطاة للتوافق مع اللّه في قداسته وكماله، لأنها لا تستطيع أن تعيدهم إلى حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية. لذلك لا يمكن أن تكون هذه الأعمال وحدها ثمناً للغفران أو التمتع باللّه.
وقد أدرك الأنبياء هذه الحقيقة، فكانوا يبكون على خطاياهم بالرغم من الأعمال الصالحة الكثيرة التي كانوا يقومون بها. فداود النبي كان يعوّم سريره بدموعه ويذوّب فراشه كل ليلة (مزمور 6: 6) ، ويقول: بليت عظامي من زفيري اليوم كله (مزمور 32: 3) ، و ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي، لأن آثامي قد طمت فوق رأسي كحِمل ثقيل أثقل مما أحتمل. قد أنتنت وفاحت حُبُر ضربي من جهة حماقتي (مزمور 38: 3-5) ءالحُبُر هي الجروح العميقة التي وإن شُفيت، لا تزول آثارها من الجسمى.
اعتراض وَجِّه ضد هذه الحقائق، والرد عليه
وهل يستوي الخاطئ الذي يقوم بالأعمال الصالحة ابتغاء مرضاة اللّه، والذي يقوم بها لأغراض شخصية، أو لا يقوم بها إطلاقاً؟ى.
الرد: طبعاً لا يستويان، لأن اللّه لعدالته لا يمكن أن يهمل ذرة من الخير يقوم بها إنسان ابتغاء مرضاته، بل لا بد أن يجازيه عنها خيراً. لكن بما أن الجزاء يكون من جنس العمل، وليس في الأبدية مجال للمال أو الخدمات المادية التي يقوم بها الناس في العالم الحاضر حتى يكافئهم اللّه هناك بمثل ما فعلوا، لذلك فالخطاة الذين يتصدَّقون ويعملون أعمالاً صالحة ابتغاء مرضاة اللّه، ينالون مكافأتهم من اللّه في العالم الحاضر بجزاءٍ من نوع أعمالهم. فيزيد مثلاً من ثروتهم، ويهيّئ لهم سُبل النجاة من الضيقات التي يتعرضون لها. لكن عند انتقالهم من العالم الحاضر سيكونون بعيدين عن اللّه مثل غيرهم من الخطاة، لأن الصدقة والأعمال الصالحة لا يفيان في ذاتيهما مطالب عدالة اللّه، ولا تمدّان القائمين بهما بطبيعة روحية تؤهلهم للتوافق معه في قداسته وصفاته الأخلاقية الأخرى، كما ذكرنا فيما سلف.
أما الذين، مع قيامهم بأعمال الخير، يمقتون الخطية ويتضرعون إلى اللّه بتذلل ليخلصهم منها، فإنه يتجه إليهم بكل عطف، ويهيئ لهم السبيل للحصول على الغفران والتمتع بشخصه، إذ وُفِّيت مطالب عدالته وقداسته بوسيلة خاصة، كما كانت الحال مع كرنيليوس (أعمال 10) .
- 5 -
الشفاعة وعلاقتها بالغفران