- 3 -
قانونية قيام اللّه بالفداء
تساور الشكوك بعض الناس في موضوع ظهور اللّه في ناسوت للقيام بالتكفير عن خطايانا ، وإن كان لا بد من التسليم به للأسباب التي ذكرناها في الباب السابق. فلنفحص فيما يلي اعتراضاتهم عليه.
1 - اللّه منزَّه في ذاته كل التنزيه، فلا يمكن أن يتَّخذ لنفسه ناسوتاً مثلنا، لأي غرض من الأغراض.
الرد: إذا وضعنا أمامنا أن اللّه يحبنا محبة شديدة، لأنه خلقنا على صورته كشبهه كما ذكرنا في الباب الأول، أدركنا أنه لا يمكن أن يكون متباعداً عنا، بل لا بد أن يكون حانياً علينا أكثر مما نفتكر أو نتصور. وهذا ما يدعوه إلى أن يشق لنفسه طريقاً من اللامحدودية إلى المحدودية مع بقائه غير محدود في ذاته، ومن جو القداسة المطلقة الذي يحيط به إلى عالم الخطية الذي نعيش فيه، مع بقائه قدوساً في ذاته. كما أن هذه المحبة تدعوه أن يعلن ذاته لنا بهيئة نستطيع إدراكه بها، هي الهيئة البشرية. إذ بدونها لا نستطيع أن ندرك أنه يحبنا، وبالتالي لا نستطيع أن نحب أو نثق أنه يمكننا الاقتراب منه والتوالف معه. وعندما يريد الله أن يعلن لنا محبته ويكفر بنفسه عن خطايانا، لا يكون هناك مانع لديه من الظهور في ناسوت خاص، طالما أن هذا الناسوت خال من الخطية ومعصوم منها. لأنه لو ظهر لنا في هيئة ملائكية مثلاً، لما استطعنا إدراكه حق الإدراك، إذ ليس هناك مجال للتوافق الحقيقي بيننا وبين الملائكة.
وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن التنزيه الذي يليق باللّه هو التنزيه عن الخطأ وعدم البر، وعن العجز والضعف، وليس التنزيه عن الاتصال بالناس الذين خلقهم على صورته، أو إظهار المحبة لهم والعطف عليهم بكل وسيلة من الوسائل.
2 - كيف يشق اللّه لنفسه طريقاً من اللامحدودية إلى المحدود مع بقائه غير محدود في ذاته، ومن جو القداسة المطلقة الذي يحيط به إلى عالم الخطية الذي نعيش فيه مع بقائه قدوساً في ذاته؟.
الرد: بما أن وجود اللّه مع جماعة من الناس في وقت ما، لا يمنعه من الوجود مع آلاف غيرها في جهات متباعدة في نفس الوقت، لذلك لا اعتراض على إمكانية ظهوره لنا في ناسوت مع بقائه غير محدود في ذاته. كما أن قداسة اللّه المطلقة لا تسمح لأي شرّ بالتسرب إليه مهما كان هذا الشر على مقربة منه، لأن القداسة المطلقة التي يتصف بها اللّه عازل يحول دون ذلك، فهو والحالة هذه يشبه (إن جاز التعبير) النور الذي يشق طريقه في وسط الظلمة، دون أن تختلط به أو يختلط هو بها.
3 - كيف يظهر اللّه الذي لا حدّ لعظمته، في ناسوت مثلنا؟.
الرد: لا تسمح محبة اللّه الشديدة لنا لأي عقبة أن تقف في سبيل تحقيق أغراضها، لا سيما وأن العظمة الحقيقية ليست في تشامخ العظيم بل في تواضعه، وليست في تعاليه بل في تنازله، كما أنها ليست في الأثَرة والأنانية بل في الإيثار والتضحية. فلا يمكن أن يستنكف اللّه من أن يظهر لنا في ناسوت خاص، طالما أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لفدائنا، وفي الوقت نفسه هي الوسيلة الوحيدة التي بها نقدر أن ندرك محبته الفائقة لنا، ونقدر بها أن ندنو منه ونتوالف معه. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن اللّه كان يتراءى أحياناً لأصفيائه بهيئة مُدرَكة لديهم، اتضح لنا أن ظهوره في ناسوت ليعلن لنا جميعاً محبته الفادية، لا يتعارض مع طبيعته أو مقاصده من نحونا، لا سيما إذا كان هذا الناسوت قدوساً خالياً من الخطية ومعصوماً منها كما ذكرنا.
كان اللّه يظهر لليهود في صوت دون هيئة ما، لئلا يعملوا له تمثالاً يسجدون له. فقد قال موسى النبي لبني إسرائيل: فكلّمكم الرب من وسط النار، وأنتم سامعون صوت كلام. ولكن لم تروا صورة بل صوتاً (تثنية 4: 12) أما في حالة عدم احتمال عمل تمثال له بسبب الرسوخ في الإِيمان، فكان يظهر في هيئة ملاك أو إنسان، لأنها الهيئة التي يمكن للبشر التوالف بها معه، فظهر في الهيئة الأولى لهاجر. ولما أدركت أنه اللّه بعينه، قالت له: أنت إيل رُئي ، أي أنت إله حقيقي يمكن رؤيته (تكوين 16: 10-13) . وظهر في الهيئة الثانية لمنوح أبي شمشون. ولما سأله هذا عن اسمه قال له: لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟! وعندما تجلّت حقيقة هذا الإنسان عند صعوده إلى السماء، سقط منوح هو وزوجته على الأرض، قائلاً لها: نموت موتاً لأننا قد رأينا اللّه (قضاة 13: 18-22) .
4 - القول بظهور اللّه في ناسوت خال من الخطية ليعلن محبته الفادية لنا هو محاولة لإِخضاع اللّه لعقولنا، مع أن عقولنا هي التي يجب أن تخضع للّه في روحانيته المطلقة وتنزّهه عن كل عرض من الأعراض.
الرد: ليس هذا الموضوع محاولةً منا أن نُخضع اللّه لعقولنا، بل إنه من مستلزمات طبيعته وعلاقته بنا كما اتضح لنا مما سلف. فاللّه ليس ملكاً متكبراً لا عمل له إلا قبول الإكرام والاحترام من أتباعه، ومعاقبة الذين يسيئون إليه ومكافأة الذين يُخلِصون له منهم، وإظهار شيء من العطف في بعض الأحيان على من تنزل بهم الكوارث مثلاً، مع بقائه في برجه العاجي مترفّعاً عنهم أجمعين. لكنه الأب الطيب الذي لا يدع فاصلاً بينه وبين أولاده، بل وفي محبة شديدة يقترب إليهم ويقربهم إليه، كما ينزل إلى مستوى مداركهم ليعلن لهم ما خفي عنهم من جهة شخصه وأغراضه الصالحة من نحوهم. وإذا استلزم الأمر فإنه يضحي بكل ما لديه من أجلهم، ليرقى بهم إلى أسعد حالة ممكنة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن اللّه لا يريد أن ندنو منه ونحن في حالة الرعب أو الذعر، لأن هذه الحالة لا تتوافق مع كماله، ولا تعود علينا بخير ما، بل أن ندنو منه ونحن في حالة المحبة له والشوق إليه. وأنه لا يمكن أن ندنو منه في الحالة الثانية إلا إذا أعلن لنا ذاته ومحبته بهيئة مُدرَكة لنا، اتضح لنا أن اتخاذ اللّه لنفسه ناسوتاً قدوساً ليعلن محبته لنا وليكفر عن خطايانا، أمر يتوافق مع ذاته ومع علاقته بنا.
5 - الفداء لا يكون إلا بين جماعة تربطها رابطة خاصة أو يجمعها جنس واحد، واللّه في ذاته لا تربطنا به هذه الرابطة، كما أنه ليس من جنسنا، فكيف يكون فادياً لنا؟.
الرد: خلقنا الله على صورته كشبهه، وأعطانا نسمة حياة خالدة من لدنه، كما جعلنا أعزّ الكائنات وأقربها إليه، وعرفنا بالكثير عن ذاته ومقاصده من نحونا بواسطة وحيه الذي كان يرسله إلينا من وقت إلى آخر، وقال لنا إنه ألصق نفسه بنا وألصقنا به (إرميا 13: 11) ، وليس هناك رابطة في الوجود مثل هذه الرابطة. أما من جهة وجوب أن يكون الفادي واحداً من جنسنا، فهذا يتحقق بالتمام باتخاذ اللّه لنفسه ناسوتاً مثلنا (إنما خالياً من الخطية خلواً تاماً كما ذكرنا) كما قال الإنجيل عن هذه الحقيقة: فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية (عبرانيين 2: 14 و15) .
6 - كيف نعلم أن اللّه يريد فداءنا، أو التكفير عنا بنفسه؟.
الرد: (أ) فضلاً عن الأدلة المتعددة الواردة في التوراة والإنجيل عن قيام اللّه بفدائنا أو التكفير عنا، كما ذكرنا فيما سلف، نقول: بما أن اللّه لم ينفذ حكم الموت في آدم بعد سقوطه في الخطية مباشرة، بل أبقاه حياً. وبما أنه ليس من المعقول إزاء كمال اللّه أن يكون قد أبقاه حياً ليلد ملايين البشر للشقاء الأبدي. إذاً فعدم قضاء اللّه على آدم بالموت بعد سقوطه في الخطية مباشرة، دليل على أنه لا يريد هلاك البشر بل خلاصهم. وبما أن خلاصهم لا يتحقق إلا بفدائه إياهم بنفسه، إذاً فمن المؤكد أنه أراد أن يقوم بهذه المهمة منذ القديم.
(ب) فإذا أدركنا أن الذبائح الحيوانية التي كانت تُقدّم بقصد التكفير عن الخطية، لم تكن صالحة لهذا الغرض كما مرّ بنا، وأنه على الرغم من عدم صلاحيتها كان اللّه يأمر الناس بوجوب المواظبة على تقديمها طوال العهد القديم، بل وجعل تقديمها وقتئذ الوسيلة الوحيدة لقبولهم أمامه، اتضح لنا أنه لا بد أنها كانت ذات معنى لديه، وهذا المعنى (كما يتضح من دراسة التوراة والإنجيل) ينحصر في أن الذبائح كانت رمزاً إلى فادٍ يقدر أن يكفّر عن الخطية تكفيراً حقيقياً إلى الأبد (1كورنثوس 5: 7 وعبرانيين 13: 11 و12) . وبما أن الذي يقوم بهذه المهمة هو اللّه دون سواه، إذاً لا بد أنه قصد أن يفتدينا بنفسه منذ القديم.
(ج) يقول الكتاب المقدس إن الإنسان عندما يطيع اللّه، تصبح الملائكة خداماً له، لأن الملائكة أرواح خادمة مُرسَلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عبرانيين 1: 14) ، الأمر الذي يدل على أن الإِنسان هو أعظم المخلوقات وأقربها إلى اللّه وأحبها إليه، وأن اللّه قصد منذ الأزل أن تكون له مع هذا الإِنسان علاقة وثيقة مستمرة. وبما أنه لا مجال لهذه العلاقة مع وجود الخطية، ولا مجال لمحو الخطية إلا بفداء اللّه للإِنسان (أو بالحري إلا بتكفيره عن خطاياه وإمداده بحياة روحية يستطيع بها التوافق معه) ، إذاً لا شك أن اللّه قصد منذ الأزل أن يفتدينا بنفسه.
7 - ألا توجد وسيلة للخلاص من خطايانا إلا بافتداء اللّه لنا بنفسه؟.
الرد: (أ) حقاً ما أصعب هذا السؤال أمام بعض الناس، وما أكثر الحيرة التي يسبِّبها لهم، فنحن لا نستطيع بعقولنا أن نعرف كل أفكار اللّه وتدبيراته، لأن إدراكنا محدود وهو فوق الحدود. فمن الشطط أن نتصوّر خطة خاصة يتحتم على الله أن يستخدمها في أمر خلاصنا من الخطية. لكن بحسب العقل الذي تفضّل وأعطاه لنا نقول: لو كان من الجائز أن تقل عدالة اللّه وقداسته عن رحمته ومحبته، لكان من الجائز أن ينقذ جميع البشر من خطاياهم ويقربهم إلى حضرته بكلمة واحدة، كما خلق العالم من قبل بمثل هذه الكلمة. لكن بما أن عدالته توازي رحمته، وقداسته توازي محبته بسبب كمال كل صفة من صفاته وتوافقها معاً توافقاً تاماً، إذاً فمع رحمته ومحبته اللتين لا حدَّ لهما، فإن من مستلزمات الكمال الذي يتصف به، ألا يتساهل في شيء من مطالب عدالته وقداسته. وبما أنه لا يستطيع سواه أن يوفي مطالب هذه وتلك، فلا سبيل للخلاص من الخطية ونتائجها إلا بقيامه بافتدائنا بنفسه.
(ب) أما لو صفح اللّه عنا وقرّبنا إليه دون أن يفتدينا بنفسه، لانخفض قدر عدالته وقداسته عن رحمته ومحبته، أو لكان قد انحاز إلى رحمته ومحبته دون عدالته وقداسته. وبما أنه لكماله المطلق لا يمكن أن تقل عدالته عن رحمته أو قداسته عن محبته، ولا يمكن أيضاً أن ينحاز إلى صفة فيه دون أخرى، إذاً فمن المؤكد أنه يقبل القيام بافتدائنا بنفسه، لأن هذا يكون أكثر موافقةً لكماله من الصفح عنا وتقريبنا إليه بوسيلة لا تتفق مع عدالته وقداسته. وبالإِضافة إلى كل ما تقدم، فإنه أيسر لنا أن نؤمن بإِله يحب خليقته ويبذل كل ما لديه في سبيل إسعادها، من أن نؤمن بإِله غير كامل الصفات أو ينحاز إلى صفة دون الأخرى.
8 - أعلن الوحي أن الله بطيء الغضب وكثير الإحسان (خروج 34: 6) ، فيمكنه أن يصفح عن الخطاة من مجرد رحمته، لا سيما وأن هذا التصرف يكون أحسن لدى اللّه من الفداء الذي يكلفه كثيراً.
الرد: (أ) إذا كان اللّه يصفح عن الخطاة دون مراعاة لعدالته ويقرّبهم إليه دون مراعاة لقداسته، تكون عدالته قد قلت في قيمتها عن رحمته، وتكون قداسته قد قلت في قيمتها عن محبته، وهذا ما لا يمكن حدوثه بسبب كماله المطلق وتوافق صفاته معاً كما ذكرنا. كما أنه إذا كان اللّه يترك الأشرار يطغون ويعبثون، وفي نهاية الأمر يأتي بهم إلى سمائه لينعموا معه فيها (إذا كانوا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً) ، لا يكون رحيماً أو رؤوفاً بل متساهلاً مع الشر. ولكن بتكفيره عن البشر بنفسه وبتحمُّله نتائج خطاياهم عوضاً عنهم، وإمداده إياهم بحياة روحية يمكنهم بها التوافق معه في صفاته السامية، يُظهر منتهى العدالة ومنتهى الرحمة، كما يظهر منتهى القداسة ومنتهى المحبة. كما أنه يُذيب قلوب المخْلِصين منهم، فيُقبِلون إليه بكل حب وإخلاص، وهم على استعداد تام لخدمته وإكرامه مهما كلفهم الأمر من جهد.
ولا مجال للاعتراض على وضعنا لعدالة اللّه وقداسته نصب أعيننا دائماً عند البحث في مسألة الغفران والقبول لديه، لأن العدالة والقداسة لديه ليستا مبدأين أخلاقيَّين منفصلين عن ذاته، يراعيهما عند القيام بأعماله كما هي الحال عند المخلصين من الحكام والقضاة، بل أنهما (مع المبادئ الأخلاقية الأخرى) صفتان كائنتان في ذاته. فلا يمكن أن يتخلى عنهما أو يتصرف بالرحمة والمحبة. دون إيفاء مطالب كل منهما أولاً.
(ب) أخيراً نقول: إن الأحسن لدى اللّه ليس هو الأسهل في نظرنا، لأن اللّه لا ينظر إلى أمر من الأمور التي يعملها من جهة كونه سهلاً أو صعباً، فكل الأمور سهلة لديه. لكنه ينظر إلى كل أمر من جهة كونه متوافقاً مع كماله أو غير متوافق معه. ولما كان فداء اللّه لنا بنفسه يتوافق مع كماله كل التوافق، لأنه يتمشى مع عدالته وقداسته التي يجب إيفاء مطالبهما، لذلك فهو الشيء الأحسن لديه. إن كان هناك مجال لوجود شيء حسن وآخر أحسن في الأعمال التي يقوم بها.
9 - إذا كان ولا بد من الفداء، فهل يعجز اللّه عن خلق شخص يقوم به نيابة عنه؟.
الرد: بما أنه لا يستطيع القيام بالفداء إلا اللّه كما مرَّ بنا، وبما أنه ليس من المعقول أن يخلق اللّه شخصاً نظيره، لأن المخلوق يكون مُحدِثاً، والمحدِث لا يكون مثل القديم الأزلي في شيء من خصائصه. إذاً ليس هناك كائن غير اللّه يستطيع أن يفدينا ويكفر عنا سيئاتنا.
ولو أن اللّه خلق شخصاً نظيره للقيام بهذه المهمة، لكان قد ظلم هذا الشخص وعاقبه بأشنع عقوبة دون ذنب جناه. أما إذا كان هو يقوم بافتدائنا بنفسه، فلا يكون قد ظلم أحداً أو قسا عليه، بل يكون قد أظهر منتهى المحبة والرحمة لنا، الأمر الذي هو خليق به. كما أنه لو قام شخص غير اللّه بفدائنا، لأصبح هذا الشخص مصدر حياتنا وولي نعمتنا، لأنه يكون بالنسبة لنا المنقذ من العذاب الأبدي والواهب الحياة الأبدية لنا، ولصرنا كلنا تبعاً لذلك عبيداً له من دون اللّه. كما يكون اللّه قد تنازل لهذا الشخص عن مجده الذاتي كالسيد الرب الوحيد الذي له وحده الإكرام والعبادة. ولا يمكن أن يتنازل الله عن مجده هذا لكائن ما (إشعياء 42:
، لأنه فضلاً عن أنه لا إله إلا هو، لا يجوز أن يكون هناك إله معه على الإطلاق (وإلا لكان محدوداً في قدرته، وهذا محال) . فمن البديهي أن يقوم اللّه نفسه بافتدائنا كما ذكرنا.
10 - مهما بلغت شدَّة محبة اللّه للبشر، فهي لا يمكن أن تصل إلى الدرجة التي يقوم معها بفدائهم بنفسه، لما يتطلبه الفداء من تضحية لا نقدر أن نتصورها.
الرد: إذا كان الأب البار بأبنائه، مع ما فيه من نقائص، يحبهم محبة شديدة ويحتمل بنفسه نتائج أخطائهم عوضاً عنهم، لذلك لا غرابة إذا كان اللّه الكامل كل الكمال يرضى، في محبته التي تفوق محبة الآباء بدرجة لا حدَّ لها، أن يتحمل عنا نتائج خطايانا، بل يعوّض لنا أيضاً ما نكون قد فقدناه من امتيازات بسبب جهلنا وانحرافنا عنه. والكتاب المقدس مليء بالآيات التي تدل على أن اللّه يُسرّ بنا ويحبنا محبة لا حد لها، الأمر الذي يدل على أن فداءه لنا أمر يتوافق ليس فقط مع ذاته وما بها من كمال مطلق، بل ويتوافق أيضاً مع علاقته بنا كما ذكرنا.
ففي التوراة، أعلن الوحي أن لذّات اللّه هي مع بني آدم (أمثال 8: 31) ، وأنه أحب المؤمنين محبة أبدية، ولذلك أدام لهم الرحمة (أرميا 31: 3) . وأنهم أعزاء ومكرَّمون في عينيه (إشعياء 43: 4) ، وبمثابة حدقة العين لديه (تثنية 32: 10) وأنه بمحبته ورأفته يفكهم من ضيقاتهم (إشعياء 63: 9) ، وأنه يجذبهم بربط المحبة إذا ضلوا عنه (هوشع 11: 4) ، وأنه أحبهم ليس لصلاح فيهم بل أحبهم فضلاً (هوشع 14: 4) ، أو بالحري دون أن يكون هناك شيء فيهم يدعوه إلى إظهار المحبة لهم.
وفي الإنجيل، أعلن الوحي أن مسرة اللّه هي في الناس (لوقا 2: 14) ، وأنه أحب العالم بأسره (يوحنا 3: 16) ، وأنه أحب المؤمنين به إلى المنتهى (يوحنا 13: 1) وأنهم لذلك يدعون أحباء اللّه (رومية 1: 7) وأولاده (1يوحنا 3: 1) .
وأعلن الوحي أن المحبة ليست مجرد صفة من صفات اللّه بل أنها ذات طبيعته، فقد قال اللّه محبة (1يوحنا 4:
، أي أنه بكلياته وجزئياته (إن جاز التعبير) محبة. ولذلك فإنه لا يقف عند حد الاهتمام بالناس أو الإحسان إليهم، بل إنه أيضاً يتوق إليهم ويريد الاتصال بهم إتصالاً وثيقاً. وعندما نقول إن الله يحب البشر، نعني أنه يضحي بكل شيء لديه في سبيل خيرهم وإسعادهم.
والمسيحية وحدها هي التي تعلن أن اللّه يحب جميع الناس، وليس الصالحين منهم فحسب كما تقول غيرها من الأديان. ومحبة اللّه لنا ليست هي الرحمة والشفقة فحسب (كما يظن البعض) ، بل هي (إن جاز التعبير) التعلُّق بنا تعلقاً يجعله يجد كل سروره فينا، كما يجعله يضحي بكل عزيز وغالٍ لديه في سبيل إسعادنا. ولإِيضاح الفرق بين المحبة والرحمة بمثل مادي نقول: قد تأخذنا الشفقة أحياناً على مجرم أثيم وصل إلى أحط درجات البؤس والشقاء، فنمدّه بما يحتاج إليه من غذاء أو كساء، ولكننا لا نستطيع أن نأتي به إلى منزلنا ليعيش بين أفراد عائلتنا ويأكل ويشرب ويتسامر معنا، وذلك بسبب اختلاف أخلاقه عن أخلاقنا. فنحن بتصرفنا هذا، نكون قد أشفقنا عليه، لكن لا نكون قد أحببناه. والرحمة الخالية من المحبة قاسية كل القسوة، ولا تقبلها إلا النفوس الدنيئة الحقيرة، كما أنها لن تكون عاملاً في تهذيب هذه النفوس أو إصلاحها. أما اللّه جل شأنه فلا يشفق على الخطاة فقط بل ويحبهم أيضاً، ويتحمَّل في نفسه خطاياهم، ويعمل على تأهيلهم للتوافق الروحي معه، الأمر الذي يملأ المخلصين منهم بالمحبة الخالصة له، ويجعلهم يحفظون وصاياه ويتفانون في خدمته وإكرامه دون النظر إلى جزاء أو ثواب.